الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»
خَلَق الإنسانَ في أحسن تركيب، وأملح ترتيب، في الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم الذكاء، ورَزَقَه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خُصَّ بها من الرأي والتدبير، ثم في آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردوداً، ويرى في كل يوم أَلَماً جديداً. ويقال: {وَمِنكُم مَّن يُرّدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ}: وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق؛ فهو يكون في أول أحوال عمره مطيعاً ثم يصير في آخر عمره عاصياً. ويقال أرذل العمر أن يرغب في عنفوان شبابه في الإرادة، ويسلك طريق الله مدةً، ثم تقع له فترةٌ فيفسخ عقد إرادته، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم وهذه رِدَّةٌ في هذا الطريق. ويقال أرذلُ العمر رغبةُ الشيخ في طلبٍ. ويقال أرذلُ العمر حُبُّ المرءِ للرياسة. ويقال أرذلُ العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يُرْضِيَ خصومَه.
أرزاق المخلوقات مختلفة؛ فَمِنْ مضَيَّقٍ عليه رزقُه، ومَنْ مُوَسَّع عليه رزقه، ومِنْ أرزاق هي أرزاق النفوس، وأرزاقٍ للقلوب وأرزاق للأرواح، وأرزاق للأسرار؛ فأرزاقُ النفوسِ لقوم بتوفيق الطاعات، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقومٍ حضورُ القلب باستدامة الفكر، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم، فيكون بلاؤهم في محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقِّ، فأمَّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار.
قوله جلّ ذكره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}. شَغَلَ الخَلْقَ لأنَّ الجنس أَوْلَى بالجنس. ولمَّا أراد الحقُّ- سبحانه- بقاء الجنس هَيَّأَ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل، ثم مَنَّ على البعض بخلْق البنين، وابتلى قوماً بالبنات- كلُّ بتقديره على ما يشاء. قوله جلّ ذكره: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. والرزق الطيب لعبدٍ ما تستطيبه نَفْسُه، ولآخر ما يستطيبه سِرُّه. فمنهم من يستطيب مأكولاً ومشروباً، ومنهم من يستطيب خلوةً وصفوة إلى غير ذلك من الأرزاق. {أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}، وهو حسبان حصول شيءٍ من الأغيار، وتعلُّق القلبِ بهم استكفاءً منهم أو استدفاعاً لمحذور أو استجلاباً لمحبوب. {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} والنعمة التي كفروا بها هي الثقةُ بالله، وانتظارُ الفَرَجِ منه، وحسنُ التوكل عليه.
ومَنْ يَتَعَلَّقُ بشخص أو بسببٍ مُضَاهٍ لعُبَّاد الأصنام من حيث إنه يضيِّعُ وقتَه فيما لا يُعِينُه، فالرزقُ، من الله- في التحقيق- مُقَدَّرٌ.
كيف تُضْرَبُ ألأمثالُ لمن لا يساويه أحدٌ في الذات والصفات وأحكام الأفعال؟ ومَنْ نَظَرَ إلى الحقِّ من حيث الخَلْق وقع في ظلمات التشبيه، وبقي عن معرفة المعبود.
شبَّهَ الكافرَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ولا مِلْكَ له في الشرع، والمؤمنَ المخلصَ بمَنْ رَزَقَه الخيراتِ ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثوابَ وحُسْنَ المآبِ على ما أنفقه. ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس مَنْ كان بنفْسِه، ملاحظاً لأبناء جِنْسِه، متمادياً في حسبان مغاليطه كمَنْ كان مُدْرِكاَ بربِّه مصْطَلماً عن شاهده، غائباً عن غيره، والمُجرِي عليه ربُّه ولا حَوْلَ له إلا به.
هذا المَثلُ أيضاً للمؤمن والكفار؛ فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجيء منه شيءٌ، ولا يحصل منه نفع، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حَوْلِه وقُوَّتِه، ولا يعْترف إلا بطوْلِه- سبحانه- ومِنَّتِه.
استأثر الحقُّ- سبحانه- بعلم الغيبيات، وسَتَرهَا على الخلْق؛ فيخرِجُ قوماً في الضلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية، ويقيم قوماً برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية.. فالعواقبُ مستورة، والخواتيم مبهمة، والخَلْقُ في غفلة عما يُرَادُ بهم.
خلَقهُم مِنْ غير أَنْ شاورهم، وأثبتهم- على الوصف الذي أراده- دون أن خَيَّرهم، ولم يعلموا بماذا سبق حُكْمُهم.. أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدَم أخرجهم من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاحَ أَنْفُسِهِمْ عَلِمُوا، ولا صفةَ ربِّهم عَرفوا. ثمَّ بحُكْم الإلهام هداهم حتى قَبِّلَ الصبيُّ ثدي أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ}: لتسمعوا خطابه، {وَالأَبْصَارَ} لتُبصِروا أفعالَه، {وَالأَفْئدَةَ} لِتَعْرِفُوا حقَّه، ثم لتَشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس.
الطائر إذا حَلّقَ في الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط، وقد قامت الدلالة على أن الحقَّ- سبحانه- متفرِّدٌ بالإيجاد، ولا يَخْرُجُ حادثٌ عن قدرته، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه.
للنفوس وطن، وللقلوب وطن. والناس على قسمين مستوطنٌ ومسافر: فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم؛ فالمريد أو الطالب مسافِرٌ بقلبه لأنه يَتَلَوَّنُ، ويرتقي من درجة إلى درجة، والعارف مقيمٌ ومستوطِنٌ لأنه واصل متمكن. والطريق منازلُ ومراحلُ، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب، والمريد سالِكُ والعارف واصِلٌ.
في الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالاً , كذلك جعل في ظل عنايته لأوليائه مثوًى وقراراً. وكما سَتَرَ ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم- كذلك ألبس سرائركم لباساً يلفكم به في السراء والضراء، ولباسَ العصمة يحميكم من مخالفته، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته، وكساكم بحُلَلِ الوصل مما يؤهلكم لقربته وصحبته. قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ...}، إتمام النعمة بأنتكون عاقبتُهم مختومة بالخير، ويكفيهم أمورَ الدين والدنيا، ويصونهم عن اتباع الهوى، ويُسَدِّدُهم حتى يؤثروا ما يوجِبُ من الله الرضاء.
إذا بَلَّغْتَ الرسالة فما جعلنا إليك حكم الهداية والضلالة.
يَسْتَوْفِقُونَ إلى الطاعةِ، فإذا فعلوا أُعجِبُوا بها. ويقال يستغيثون، فإذا أجابهم قَصَّروا في شُكْرِه. ويقال إذا وَقَعَتْ لهم محنةٌ استجاروا بربهم، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة. ويقال يعرفون في حال توبتهم قُبْحَ ما كانوا فيه حال زلتهم، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة.
إذا كان يومُ الحشر سأل الرسلُ عن أحوال أُمَمِهم، فمن نَطَقَ بحجةٍ أُكْرِمَ، ومَنْ لم يُدْلِ بحجةٍ لا تُراعى له حُرْمةٌ.
أي يُشَدَّد عليهم الأمرُ ولا يُسَهَّل.
تمنوا أن يَنْقُموا من إخوانهم الذين عاشروهم، وحملوهم على الزَّلَّة، فيتبرأون من شركائهم، ويلعن بعضهم بعضاً، وتضيق صدورهم من بعض.
قوله جلّ ذكره: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} واستسلمو لأمر الله وحُكْمه، ويؤمئذ لا تضرُّع منهم يُرَى، ولا مِحْنَةَ- يصرخون من ويلها- عنهم تُكْشَف.
تأتي- يومَ القيامة- كلُّ أمة مع رسولها، فلا أُمةَ كهذه الأمةِ فضلاً، ولا رسولَ كرسولنا صلى الله عليه وسلم- رتبةً وقَدْرَاً. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ} أي القرآن تبياناً لكل شيء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلىلكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء.
العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم. أمر اللَّهُ الإنسانَ بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخَلْق؛ فالعدلُ الذي بينه وبين نفسه مَنْعُها عما فيه هلاكُها، قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى} [النازعات: 40]، وكمالُ عدلِه مع نفسه كيُّ عُروقِ طمعِه. والعدلُ الذي بينه وبين ربِّه إيثارُ حقِّه تعالى على حظِّ نفسه، وتقديمُ رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر. أو العدل الذي بينه وبين الخَلْق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تَشِيَ إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بِالهَمِّ أو العزم. وإذا كان نصيبُ العوام بَذْلَ الإنصافَ وكَفِّ الأذى فإِنَّ صفةَ الخواص تَرْكُ الانتصاف، وإسداءُ الإِنْعَام، وترك الانتقام، والصبرُ، على تَحَمُّلِ، ما يُصيبُكَ من البلوى. وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلمُ مأمورٌ به- أي العلم بحدوثِ نَفْسه، وإثباتِ مُحْدِثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها. وأما الإحسانُ في الفعل فالحَسَنُ منه ما أمر الله به، وأَذِنَ لنا فيه، وحَكَمَ بمدح فاعله. ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقِّ وَجَبَ عليك حتى لو كان لطيرٍ في مِلكِك، فلا تقصر في شأنه. ويقال أن تَقْضِيَ ما عليك من الحقوق وألا تقتضِيَ لك حقاً من أحد. ويقال الإحسان أن تتركَ كل ما لَكَ عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحساناً. وجاء في الخبر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم. قوله: {وَإِيِتَآئِ ذِى القُرْبَى} إعطاء ذي القرابة، وهو صلةُ الرَّحِمِ، مع مُقاساةِ ما منهم من الجَوْرِ والجفاءِ والحَسَدِ. {وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَآءِ وَالمُنْكَرِ}: وذلك كلُّ قبيح مزجورٍ عنه في الشريعة.
|